{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]

مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الثالث
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد عزير شمس
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 584
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
واتّفقت كلمة القوم على أنّ دوام الافتقار إلى الله مع التّخليط خيرٌ من دوام الصّفاء مع رؤية النّفس والعُجْب، مع أنّه لا صفاء معهما.
وإذا عرفت معنى الفقر عرفتَ أنّه عينُ الغنى بالله، فلا معنى لسؤال مَن سأل: أيُّ الحالينِ أكمل؟ الافتقار إلى الله أم الاستغناء به؟ فهذه مسألةٌ غير صحيحةٍ، فإنّ الاستغناء به هو عين الافتقار إليه.
وسئل عن ذلك محمّد بن عبد الله الفَرغانيُّ - رحمه الله - فقال: إذا صحّ الافتقار إلى الله فقد صحّ الاستغناء بالله، وإذا صحّ الاستغناء بالله كمل الغنى به. فلا يقال: أيُّهما أتمُّ: الافتقار أم الغنى؟ لأنّهما حالتان لا تتمُّ إحداهما إلّا بالأخرى (1).
وأمّا كلامهم في مسألة الفقير الصّابر والغنيِّ الشّاكر وترجيح أحدهما على صاحبه (2)، فعند أهل التّحقيق والمعرفة: أنّ التّفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنّما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق. فالمسألة أيضًا فاسدةٌ في نفسها. فإنّ التّفضيل عند الله بالتّقوى وحقائق الإيمان، لا بفقرٍ ولا غنًى، كما قال تعالى:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]
، ولم يقل: أفقركم ولا أغناكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة - رحمه الله -: والفقر والغنى ابتلاءٌ من الله لعبده. كما قال تعالى:
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيَ أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 16].