
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي - سراج منير محمد منير
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 610
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
المؤلف بتفصيل درجات كل مقام، لتُعرف درجة العامة منه ثم درجة السالك ثم درجة المحقِّق. وقال: إن جميع هذه المقامات تجمعها رُتَبٌ ثلاث: أخذُ القاصد في السير، ودخوله في الغربة، وحصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين التوحيد. وقد اقتصر المؤلف فيه على كلامه دون كلام غيره من الصوفية، وعباراته في ذكر المقامات ودرجاتها موجزة محكمة، اختار فيها أسلوب المزاوجة والسجع والرمز والإشارة، فهي في حاجة إلى الشرح والبيان.
ولا شك أن مؤلِّفه إمام قدوة وحافظ كبير، دعا إلى اتباع السنة وردَّ على المتكلمين، وله في ذلك مؤلفات مثل «ذم الكلام وأهله» و «الفاروق في الصفات» و «الأربعين في التوحيد» وغيرها. وكان طودًا راسيًا في السنة لا يتزلزل ولا يلين، وقد امتُحِن مراتٍ وأوذِي ونُفي من بلده. وله من المناقب والفضائل والأخبار في هذا الباب ما هو مذكور في ترجمته. إلَّا أن كتابه «منازل السائرين» هذا قد انتقده بعض العلماء من أهل السنة، مثل الذهبي الذي يقول: «له نَفَسٌ عجيب لا يُشبِه نفَسَ أئمة السلف في كتابه منازل السائرين، ففيه أشياء مُطرِبة، وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمله لاح له ما أشرتُ إليه. والسنة المحمدية صَلِفة، ولا ينهض الذوق والوجد إلا على تأسيس الكتاب والسنة» (1). ثم ذكر أن طائفة من صوفية الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في «منازل السائرين» وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم. ويعقِّب عليه بقوله: «كلّا، بل هو رجل أثريّ، لهِجٌ بإثبات نصوص الصفات، منافِرٌ للكلام وأهله جدًّا. وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناءِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ (1)
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ربُّ العالمين، وإلهُ المرسلين، وقيُّومُ السّماوات والأرضين. وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، الفارقِ بين الهدى والضَّلال، والغيِّ والرَّشاد، والشَّكِّ واليقين. أنزله لنقرأه تدبُّرًا، ونتأمّلَه تبصُّرًا، ونسعدَ به تذكُّرًا؛ ونحملَه على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدِّقَ أخباره ونجتهدَ على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتنيَ ثمارَ علومه النّافعة الموصِلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحينَ الحِكَم من بين رياضه وأزهاره.
فهو كتابُه الدَّالُّ لمن أراد معرفته، وطريقُه المُوصِلةُ لسالكها إليه، ونورُه المبينُ الذي أشرقت له الظُّلمات، ورحمتُه المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسَّببُ الواصلُ بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدُّخول، فلا يُغلَق إذا غلِّقت الأبواب.
وهو الصِّراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذِّكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُّزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء. لا تفنى عجائبه، ولا تُقلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالته (2). كلّما ازدادت