
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي - سراج منير محمد منير
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 610
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)
مدارج السالكين في منازل السائرين
تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 هـ - 751 هـ)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
موصوفٌ به من الجود والإحسان والبرِّ، وتعرَّض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير (1) غضبُه وسخطُه في موضع رضاه، وانتقامُه وعقوبتُه في موضع كرمِه وبرِّه وإعطائه. فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحبُّ إليه منه، وخلافَ ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان. فبينا هو حبيبُه المقرَّبُ المخصوصُ بالكرامة، إذ انقلب آبقًا (2) شاردًا، رادًّا لكرامته، مائلًا عنه إلى عدوِّه، مع شدّة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عينٍ.
فبينا ذلك الحبيبُ مع العدوِّ في طاعته وخدمته ناسيًا لسيِّده، منهمكًا في موافقة عدوِّه، قد استدعى من سيِّده (3) خلافَ ما هو أهلُه، إذ عرضت له فكرةٌ فتذكَّر برَّ سيِّده وعطفَه وجودَه وكرمَه، وعلِمَ أنّه لا بدَّ له منه، وأنَّ مصيره إليه، وعرضَه عليه، وأنّه إن لم يقدَم عليه بنفسه قُدِم به (4) عليه على أسوأ الأحوال. ففرَّ إلى سيِّده من بلد عدوِّه، وجدَّ في الهرب إليه حتَّى وصل إلى بابه، فوضَع خدَّه على عتبة بابه، وتوسَّد ثرى أعتابه، متذلِّلًا متضرِّعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملَّق سيِّدَه، ويسترحمه، ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى إليه بيده (5)، واستسلم له، وأعطاه قيادَه، وألقى إليه زمامَه. فعلِم سيِّدُه ما في قلبه، فعاد مكانَ الغضب عليه رضًا عنه، ومكانَ الشِّدّة عليه رحمةً به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلمًا. فاستدعى بالتَّوبة والرُّجوع