مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الرابع
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: علي بن محمد العمران- محمد عزير شمس - نبيل بن نصار السندي - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 556
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
فإن قيل: الغرق أخصُّ بنهاية المقام من توسُّطه؛ لأنّه استغراقٌ فيه بحيث يَستفرغ قلْبَه وهمّه، فكيف جعله الشّيخ توسُّطًا فيه؟
قلت: لمّا كانت همّةُ الطّالب في هذه الحال مجموعةً على المقصود، وهو معرضٌ عمّا سواه، قد فارق مقامَ التّفرقة، وجاوزَ حدَّها إلى مقام الجمع، فابتدأ في المقام، وأوّلُ كلِّ مقامٍ يُشبِه آخرَ الذي قبله، فلمّا توسّطَ فيه استغرق قلبه وهمّه وإرادته، كما يَغرَقُ من توسّطَ اللُّجّةَ فيها قبل وصوله إلى آخرها.
قوله (1): (وهو على ثلاث درجاتٍ؛ الدّرجة الأولى: استغراق العلم في عين الحال، وهذا رجلٌ قد ظَفِرَ بالاستقامة، وتحقَّقَ في الإشارة، فاستحقَّ صحّةَ النِّسبة).
هذه الدّرجة التي بدأ بها هي أوّل درجاته؛ وقد يكون عالمًا بالشّيء ولا يكون متّصفًّا بالتّخلُّق به واستعماله، فالعلم شيءٌ والحال شيءٌ آخرٌ. فعلمُ العشق والصِّحَّة والسُّكر (2) والعافية غيرُ حصولها والاتِّصال بها، فإذا غلب عليه حال تلك المعلومات صار علمه بها كالمغفول عنه، وليس بمغفولٍ عنه، بل صار الحكم للحال.
فإنّ العبد يعرف الخوف من حيث العلم، ولكن إذا اتّصف بالخوف وباشر الخوفُ قلبَه غلبَ عليه حال الخوف والانزعاج (3)، واستغرق علمه في حاله، فلم يذكر علمه لغلبة حالِه عليه.