الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164].

مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الرابع
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: علي بن محمد العمران- محمد عزير شمس - نبيل بن نصار السندي - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 556
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164].
فكيف يكون كمالُهم في أن لا يشهدوا الدَّليلَ الذي يزكِّيهم ويعلِّمهم ويهديهم، ويسقطونه من الشُّهود والسَّببيّة؟ قوله: (فيكون شاهدًا سبقَ الحقِّ بعلمه وحكمه، ووضعِه الأشياء مواضعها، وتعليقهِ إيّاها بأحايينها، وإخفائه إيّاها في رسومها). ليس (1) الشُّهود هاهنا متعلِّقًا بمجرّد أزليّة الرَّبِّ تعالى وتقدُّمه على كلِّ شيءٍ فقط، بل متعلِّقٌ بسبق العلم والتَّقدير، فيرى الأشياء بعين سوابقها، وقد تقرَّرت هناك في علم الرَّبِّ وتقديره، فينظر إليها هناك إذا نظر إليها النَّاس هاهنا، فيتجاوز نظرُه نظرَهم، فيغلب شهودُ السَّوابق على ملاحظة اللَّواحق، فيشهد تفرُّدَ الرَّبِّ وحده حيث لا موجود (2) سواه، وقد علم الكوائنَ وقدَّر مقاديرها، ووقَّت مواقيتها، وقرَّرها على مقتضى علمه وحكمته. وقد سبق العلمُ المعلومَ، والقدرُ المقدورَ، والإرادةُ المرادَ، فيرى الأشياءَ كلَّها ثابتةً في علم الحقِّ سبحانه وحكمِه قبل وجود العوالم. فأيَّ وسيلةٍ يشهد هناك؟ وأيَّ سببٍ؟ وأيَّ دليلٍ؟ هذا الذي يدندن الشَّيخُ حوله؛ وقد عرفتَ أنَّ العلمَ والحكمَ سبَقَ بوجود المسبَّبات عن أسبابها وارتباطها بوسائلها وأدلّتها، كما سبَقَ العلمُ والحكمُ بوجود الولد عن أبويه، والمطرِ عن السَّحاب، والنَّباتِ عن الماء، والإزهاقِ عن القتل، وأسبابِ الموت= فهذه هي المشاهدة الصَّحيحةُ، لا إسقاطُ الأسباب والوسائل والأدلّة.