مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الرابع
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: علي بن محمد العمران- محمد عزير شمس - نبيل بن نصار السندي - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 556
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الأمر الثاني: الفناء في مشهد الإلهيَّة، وحقيقته (1): الفناء عن إرادة ما سوى الله ومحبَّته، والإنابةِ إليه، والتوكُّلِ عليه، وخوفِه ورجائه؛ فيفنى بحبِّه عن حبِّ ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه. وحقيقة هذا الفناء: إفراد الربِّ سبحانه بالمحبَّة والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال. ونحن نشير إلى مبادئ ذلك وتوسُّطه وغايته: اعلم أنَّ القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلُّق بما فيها من مالٍ أو رياسةٍ أو صورة، وتعلَّقَ بالآخرة، والاهتمامِ بها من تحصيل العدَّة، والتَّأهُّبِ للقدوم على الله سبحانه= فذلك أوَّلُ فتوحه وتباشيرُ فجره، فعند ذلك يتحرَّك قلبُه لمعرفة ما يرضى ربُّه منه فيفعله ويتقرَّب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه. وهذا عنوان صدق إرادته، فإنَّ كلَّ من أيقن بلقاء اللهِ وأنَّه سائلُه عن كلمتين يُسأل عنهما الأوَّلون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ = لابدَّ أن يتنبَّه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه، فإذا تمكَّن في ذلك فُتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيءَ أشوقُ إليه من ذلك، فإنَّها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتسدُّ عليه الأبواب التي تفرِّق همَّه وتشتِّتُ قلبه، فيأنس بها ويستوحش من الخلق. ثمَّ يُفتح له حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها مِن اللذَّة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذَّة اللهو واللعب ونيل الشهوات، بحيث إذا دخل في الصلاة ودَّ أن لا يخرج منها (2).