
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الرابع
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: علي بن محمد العمران- محمد عزير شمس - نبيل بن نصار السندي - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 556
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ستر الله سبحانه حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها. فحالهم ملتبسٌ على الناس لا يعرفونه (1)، فإذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدُّنيا من الأكل والشُّرب، واللِّباس والنِّكاح، وطلاقة الوجه وحسن العشرة= قالوا: هؤلاء من أبناء الدُّنيا. وإذا رأوا ذلك الجدَّ والهمم، والصبر والصِّدق، وحلاوة المعرفة والإيمان والذِّكر، وشاهدوا أمورًا ليست من دأب (2) أبناء الدُّنيا= قالوا: هؤلاء أبناء الآخرة، فالتبس حالهم عليهم، فهم مستورون عن الناس بأسبابهم وصنائعهم ولباسهم، لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارةً تشير إليهم: اعرفوني، فهؤلاء هم الصادقون، وهؤلاء يكونون مع الناس، والمحجوبون لا يعرفونهم، ولا يرفعون بهم رأسًا، وهم من سادات أولياء الله، صانهم الله عن معرفة الناس لهم كرامةً لهم، لئلَّا يفتتنوا بهم، وإهانةً للجهَّال بهم فلا ينتفعون بهم.
وهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل ما لا يعلمه إلّا الله، فهم بين الناس بأبدانهم، وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم، فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة، فإنَّ روح كلِّ عبدٍ تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبُّهم (3)، فإنَّ المرء مع من أحبَّ.
قوله: (وأسبل عليهم أكلَّة (4) الرُّسوم)، أي: أجرى عليهم أحكام