مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الرابع
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: علي بن محمد العمران- محمد عزير شمس - نبيل بن نصار السندي - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 556
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
فلا عيشَ إلّا عيشُ المحبِّين، الذين قرَّتْ أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنّت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعَّموا بحبِّه، ففي القلب فاقةٌ لا يَسُدُّها إلّا محبّة الله والإقبالُ عليه والإنابة إليه، ولا يُلَمُّ شَعَثُه (1) بغير ذلك البتّةَ. ومن لم يظفَرْ بذلك فحياته كلُّها همومٌ وغمومٌ، وآلامٌ وحسراتٌ، فإنّه إن كان ذا همّةٍ تقطَّعتْ نفسُه على الدُّنيا حسراتٍ، فإنّ همّته لا ترضى منها بالدُّون، وإن كان مَهِينًا خسيسًا فعيشُه كعيشِ أخسِّ الحيوانات، فلا تَقَرُّ العيون إلّا بمحبّة الحبيب الأوّل.
نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلّا للحبيب الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألَفُه الفتى ... وحنينُه أبدًا لأوّلِ منزلِ (2)
فصل
المرتبة التّاسعة من مراتب الحياة: حياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها وخَلاصِها من هذا السِّجن وضِيْقه، فإنّ من ورائه فضاءً ورَوْحًا وريحانًا وراحةً، نسبةُ هذه الدّار إليه كنسبة بطن الأمِّ إلى هذه الدّار أو أدنى من ذلك. قال بعض العارفين: لتكنْ مبادرتُك إلى الخروج من الدُّنيا كمبادرتك إلى الخروج من السِّجن الضّيِّق (3) إلى أحبّتك، والاجتماع بهم في البساتين