«ما الدُّنيا في الآخرة إلّا كما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم تَرجِع؟» (2).

مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الرابع
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: علي بن محمد العمران- محمد عزير شمس - نبيل بن نصار السندي - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 556
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بأنواع العذاب، وأذاقتْهم أمرَّ الشّراب، أضحكتْهم قليلًا وأبكَتْهم طويلًا، سَقَتْهم كؤوسَ سُمِّها بعد كؤوس خمرها، فسَكِروا بحبِّها، وماتوا بهجرِها.
فإذا قام بالعبد هذا الشّاهد منها ترحَّلَ قلبه عنها، وسافر في طلب الدّار الآخرة، وحينئذٍ يقوم (1) بقلبه شاهدٌ من الآخرة ودوامها، وأنّها الحيوان حقًّا، فأهلُها لا يرتحلون منها، ولا يَظْعَنون عنها، بل هي دار القرار، ومحطُّ الرِّحال، ومنتهى السّير، وأنّ الدُّنيا بالنِّسبة إليها كما قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
«ما الدُّنيا في الآخرة إلّا كما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم تَرجِع؟» (2).
وقال بعض التّابعين: ما الدُّنيا في الآخرة إلّا أقلُّ من ذرّةٍ واحدةٍ في جبال الدُّنيا.
ثمّ يقوم بقلبه شاهدٌ من النّار، وتوقُّدِها واضطرامها، وبُعْدِ قَعْرِها، وشدّة حرِّها، وعظيم (3) عذاب أهلها، فيشاهدهم وقد سِيقوا إليها سُودَ الوجوه، زُرْقَ العيون، والسّلاسل والأغلال في أعناقهم، فلمّا انتهوا إليها فُتِحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع، وقد تقطّعت قلوبهم حسرةً وأسفًا،
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53].
فيراهم (4) شاهد الإيمان وهم إليها يُدفَعون، وأتى النِّداء من قِبَل الرحمن أن قِفُوهم إنهم مسؤولون (5)، ثمّ قيل لهم:
{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ