
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الثالث
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد عزير شمس
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 584
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وهذا المنزل هو منزل الجود والسّخاء والإحسان، وسمِّي بمنزل «الإيثار» لأنّه أعلى مراتبه، فإنّ المراتب ثلاثةٌ (1):
إحداها: أن لا ينقصه البذل، ولا يصعب عليه. فهو منزلة «السّخاء».
الثّانية: أن يُعطي الأكثر، ويُبقي له شيئًا، أو يُبقي مثل ما أعطى. فهو «الجود».
الثّالثة: أن يُؤثِر غيره بالشّيء مع حاجته إليه، فهي مرتبة «الإيثار». وعكسها الأَثَرة، وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاجٌ إليه، وهي المرتبة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «إنّكم ستَلْقَون بعدي أَثَرةً، فاصبروا حتّى تَلْقَوني على الحوض» (2). والأنصار: هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، فوصفهم بأعلى مراتب السّخاء، وكان ذلك فيهم معروفًا.
وكان قيس بن سعد بن عُبادة من الأجواد المعروفين، حتّى إنّه مرِضَ مرّةً، فاستبطأ إخوانَه في العيادة، فسأل عنهم، فقالوا: إنّهم يَستحْيُون ممّا لك عليهم من الدَّين، فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان من الزِّيارة! ثمّ أمر مَن ينادي: من كان لقيسٍ عليه مالٌ فهو منه في حلٍّ. فما أمسى حتّى كُسِرتْ عَتبةُ بابه، لكثرة من عاده (3).