{وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى} [المائدة: 54].

مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الثالث
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد عزير شمس
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 584
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بذل النُّفوس، فتأخَّر البطَّالون، وقام المحبُّون ينظرون: أيُّهمُّ يصلح أن يكون ثمنًا؟ فدارت السِّلعةُ بينهم، ووقعتْ في يدِ
{وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى} [المائدة: 54].
لمّا كثر المدّعون للمحبّة طولبوا بإقامة البيِّنة على صحّة الدّعوى، فلو يُعطى النّاسُ بدعواهم لادّعى الخليُّ حُرقةَ الشّجيِّ. فتنوَّع المدَّعون في الشُّهود، فقيل: لا تثبت هذه الدّعوى إلّا ببيِّنةِ
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
فتأخَّر الخلقُ كلُّهم، وثبت أتباعُ الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه. فطولبوا بعدالة البيِّنة بتزكيةِ
{الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].
فتأخَّر أكثر المحبِّين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إنّ نفوس المحبِّين وأموالهم ليست لهم، فهَلُمُّوا إلى بيعةِ
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111].
فلمّا عرفوا عظمةَ المشتري، وفضلَ الثّمن، وجلالةَ من جرى على يديه عقدُ التّبايع= عرفوا قدْرَ السِّلعة، وأنّ لها شأنًا. فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمنٍ بخسٍ، فعقدوا معه بيعةَ الرِّضوان بالتّراضي من غير ثبوت خيارٍ، وقالوا: والله لا نُقِيلك ولا نَستقيلك. فلمّا تمّ العقد وسلَّموا المبيعَ، قيل لهم: مُذْ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفرَ ما كانت وأضعافها معًا.
{وَلَا تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170].