مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي - سراج منير محمد منير
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 610
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
والتصحيفات التي اتفقت عليها النسخ المذكورة ــ ومنها النسخة المقروءة على المؤلف - رحمه الله - ــ لم يمكن استدراكها وتصحيحها إلا بمعونة هذه النسخة، غير أنها انفردت بزيادات كثيرة قصيرة أو طويلة، وبفروق كبيرة أحيانًا في النص، تنبئ بأن الأصل الذي ترجع إليها أقدم من أصل النسخ الأخرى، فيكون المؤلف قد حذف بعض النصوص التي كتبها أولًا أو صاغها بطريقة أخرى فيما بعد. ولنضرب أولا مثلا للحذف:
فصل النفاق في المجلد الأول من الكتاب يتضمن وصفًا طويلًا رائعًا للمنافقين، وقد بنى المؤلف - رحمه الله - سجعه على الآيات الواردة في صفاتهم (ص 536 - 552)، وجاء في آخره في نسخة دار الكتب النص الطويل الآتي:
«قلوبُهم عن الخيرات لاهيةٌ، وأجسادُهم إليها ساعيةٌ، والفاحشةُ في فِجاجهم فاشيةٌ، وإذا سمعوا الحقَّ كانت قلوبُهم عن سماعه قاسيةً، وإذا حضروا الباطلَ وشهدوا الزُّورَ انفتحت أبصارُ قلوبهم، وكانت آذانُهم واعيةً. فهذه والله أماراتُ النِّفاق، فاحذرها أيُّها الرّجلُ قبل أن تنزل بك القاضية. إذا عاهدوا لم يفُوا، وإن وعدوا أخلفوا، وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دُعوا إلى الطَّاعة وقفوا، وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول صدَفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا. فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران، فلا تثق بعهودهم، ولا تطمئنَّ إلى وعودهم، فإنّهم فيها كاذبون، وهم لما سواها مخالفون. {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ (1)
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ربُّ العالمين، وإلهُ المرسلين، وقيُّومُ السّماوات والأرضين. وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، الفارقِ بين الهدى والضَّلال، والغيِّ والرَّشاد، والشَّكِّ واليقين. أنزله لنقرأه تدبُّرًا، ونتأمّلَه تبصُّرًا، ونسعدَ به تذكُّرًا؛ ونحملَه على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدِّقَ أخباره ونجتهدَ على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتنيَ ثمارَ علومه النّافعة الموصِلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحينَ الحِكَم من بين رياضه وأزهاره.
فهو كتابُه الدَّالُّ لمن أراد معرفته، وطريقُه المُوصِلةُ لسالكها إليه، ونورُه المبينُ الذي أشرقت له الظُّلمات، ورحمتُه المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسَّببُ الواصلُ بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدُّخول، فلا يُغلَق إذا غلِّقت الأبواب.
وهو الصِّراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذِّكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُّزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء. لا تفنى عجائبه، ولا تُقلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالته (2). كلّما ازدادت