
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي - سراج منير محمد منير
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 610
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ليس لصفة قائمة بالفعل، وإنما لكونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه في الشرع. وأما الطائفة الثانية، فكان غلطهم في هذا الباب في ظنهم أن شهود الحقيقة الكونية والفناء في توحيد الربوبية من مقامات العارفين، بل أجلُّ مقاماتهم.
وبعد ما ردّ ابن القيم على مذهب الطائفة الأولى في الصفحات (1/ 359 - 379)، اتجه إلى الرد على الأخرى، وختمه بتنبيه القارئ على أهمية هذا الفصل قائلا: «فتدبَّر هذا الفصلَ، وأحِطْ به علمًا، فإنّه من قواعد السُّلوك والمعرفة. وكم قد زلَّت فيه من أقدامٍ، وضلَّت فيه من أفهامٍ! ومَن عرَفَ ما عند النَّاس، أو نهضَ من مدينة طبعه إلى السَّير إلى الله، عرَفَ مقداره. فمَن عرَفه عرَفَ مجامعَ الطُّرق ومَفْرَقَ الطُّرق التي تفرَّقت بالسَّالكين وأهل العلم والنَّظر» (1/ 390).
ولكن لم يكتف ابن القيم بهذا الرد، بل عُني ببيان الفرق بين محبة الله ورضاه وبين مشيئته وإرادته، لأنه رأى أن منشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما أوالاعتقاد بوجوب الرضا بالقضاء، فذكر مذاهب المتكلمين في المسألة (1/ 391 - 393)، ثم عقد فصلا ساق فيه الدلائل من القرآن والسنة وغيرهما على الفرق بين المشيئة والمحبة (1/ 393 - 398)، وأتبعه فصلا آخر في مسألة الرضا بالقضاء (1/ 398 - 399).
وقد بدأ هذا التعقب لكلام صاحب المنازل كما رأينا عند شرح قوله في ذكر اللطيفة الثالثة من لطائف أسرار التوبة (1/ 355)، وطال حتى انتهى بعد 45 صفحة. وقد شعر ابن القيم بإطالته، فنبه القارئ مرة أخرى بقوله: «ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع، فإنّه مزلَّةُ أقدام الخلق، وما نجا من معاطبه إلّا أهلُ البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ (1)
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ربُّ العالمين، وإلهُ المرسلين، وقيُّومُ السّماوات والأرضين. وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، الفارقِ بين الهدى والضَّلال، والغيِّ والرَّشاد، والشَّكِّ واليقين. أنزله لنقرأه تدبُّرًا، ونتأمّلَه تبصُّرًا، ونسعدَ به تذكُّرًا؛ ونحملَه على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدِّقَ أخباره ونجتهدَ على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتنيَ ثمارَ علومه النّافعة الموصِلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحينَ الحِكَم من بين رياضه وأزهاره.
فهو كتابُه الدَّالُّ لمن أراد معرفته، وطريقُه المُوصِلةُ لسالكها إليه، ونورُه المبينُ الذي أشرقت له الظُّلمات، ورحمتُه المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسَّببُ الواصلُ بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدُّخول، فلا يُغلَق إذا غلِّقت الأبواب.
وهو الصِّراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذِّكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُّزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء. لا تفنى عجائبه، ولا تُقلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالته (2). كلّما ازدادت