
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي - سراج منير محمد منير
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 610
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ولمّا أشاد بذكر محاسن الهروي ومواقفه في نصر السنة قائلًا: «وصاحبُ «المنازل» - رحمه الله - كان شديدَ الإثبات للأسماء والصِّفات مضادًّا للجهميّة من كلِّ وجهٍ. وله كتابُ «الفاروق» استوعَبَ فيه أحاديثَ الصِّفات وآثارَها ولم يُسبَق إلى مثله، وكتابُ «ذمِّ الكلام وأهله» طريقتُه فيه أحسَنُ طريقةٍ. وله كتابٌ لطيفٌ في أصول الدِّين، يسلك فيه طريقةَ أهلِ الإثبات ويقرِّرها. وله مع الجهميّة المقاماتُ المشهورةُ، وسعَوا بقتله إلى السُّلطان مرارًا عديدةً والله يعصمه منهم ... » = كشف عن مذهبه في السلوك بقوله: «ولكن - رحمه الله - طريقتُه في السُّلوك مضادّةٌ لطريقته في الأسماء والصِّفات، فإنّه لا يقدِّم على الفناء شيئًا، ويراه الغايةَ التي يشمِّر إليها السّالكون، والعَلَم الذي يؤمُّه السَّائرون. واستولى عليه ذوقُ الفناء وشهود الجمع، وعظُمَ موقعُه عنده، واتَّسعت إشارتُه إليه، وتنوّعت به الطُّرقُ المُوصِلة إليه علمًا وحالًا وذوقًا، فتضمَّن ذلك تعطيلًا من العبوديَّة باديًا على صفحات كلامه وِزانَ تعطيل الجهميّة لما اقتضته أصولهم من نفي الصِّفات. ولمَّا اجتمع التَّعطيلان لمن اجتمعا له من السّالكين تولَّد منهما القولُ بوحدة الوجود المتضمنَّةِ لإنكار الصّانع وصفاته وعبوديّته. وعصَم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السَّلف في إثبات الصِّفات، فأشرَفَ من عقَبة الفناء على وادي الاتِّحاد، فلم يسلكه. ولوقوفه على عقبته ودعوة الخلق إليها، أقسمَ الاتِّحاديَّةُ بالله جَهْدَ أيمانهم إنّه لمعهم ومنهم، وحاشاه!» (1/ 409 - 410).
وفي موضع آخر أشار إلى أن أبا إسماعيل حاشاه «من إلحاد أهل الاتحاد، وإن كانت عبارته موهمة، بل مفهمة» (1/ 229)، وأنه «فتَح للزّنادقة بابَ الكفر والاتِّحاد، فدخلوا منه، وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم: إنّه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ (1)
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ربُّ العالمين، وإلهُ المرسلين، وقيُّومُ السّماوات والأرضين. وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، الفارقِ بين الهدى والضَّلال، والغيِّ والرَّشاد، والشَّكِّ واليقين. أنزله لنقرأه تدبُّرًا، ونتأمّلَه تبصُّرًا، ونسعدَ به تذكُّرًا؛ ونحملَه على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدِّقَ أخباره ونجتهدَ على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتنيَ ثمارَ علومه النّافعة الموصِلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحينَ الحِكَم من بين رياضه وأزهاره.
فهو كتابُه الدَّالُّ لمن أراد معرفته، وطريقُه المُوصِلةُ لسالكها إليه، ونورُه المبينُ الذي أشرقت له الظُّلمات، ورحمتُه المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسَّببُ الواصلُ بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدُّخول، فلا يُغلَق إذا غلِّقت الأبواب.
وهو الصِّراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذِّكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُّزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء. لا تفنى عجائبه، ولا تُقلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالته (2). كلّما ازدادت