
مدارج السالكين في منازل السائرين- المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (31)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي - سراج منير محمد منير
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 610
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
تعقبات ابن القيم على الهروي
كان ابن القيم - رحمه الله - معظِّماً لشيخ الإسلام الهروي، محبًّا له، مقدِّرًا لمواقفه في نصر السنة وإثبات الصفات ومخالفة أهل البدع، معترفًا بعلو منزلته في السير إلى الله. بل عدَّ نفسه مريدا «نفعَه الله بكلامه، وجلس بين يديه مجلس التِّلميذ من أستاذه، وهو أحدُ مَن كان على يديه فتحُه يقظةً ومنامًا» (2/ 283).
فلا غرو أن يكون شيخ الإسلام الهروي حبيبًا إلى ابن القيم، ولكن الحقَّ أحبُّ إليه من شيخ الإسلام (2/ 262). وكما أن زلات الشيخ لا توجب عنده إهدار محاسنه وإساءة الظن به، فكذلك محلُّه من العلم والإمامة والمعرفة والتفقه في السلوك لا يقتضي صرف النظر عن هفواته وسقطاته، إذ كلُّ أحد مأخوذٌ من قوله ومتروكٌ إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه (1/ 309). وقد نصَّ في موضع على أن القول لا يُردُّ بمجرد كون المعتزلة قالوه، بل يُقبل الحق ممن قاله ويُردّ الباطل على من قاله (1/ 431). هذا المنهج السليم في الأخذ والترك والقبول والرد هو الذي سار عليه - رحمه الله - في جميع مصنفاته.
وقد أكد التزامه هذا المنهجَ في مواضع عديدة من هذا الكتاب، منها قوله في باب التوكل: «ولولا أنَّ الحقَّ لله ورسوله، وأنَّ كلَّ من عدا الله ورسوله فمأخوذٌ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ= لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل السائرين كالنُّجوم الدَّراريِّ».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ (1)
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، ربُّ العالمين، وإلهُ المرسلين، وقيُّومُ السّماوات والأرضين. وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، الفارقِ بين الهدى والضَّلال، والغيِّ والرَّشاد، والشَّكِّ واليقين. أنزله لنقرأه تدبُّرًا، ونتأمّلَه تبصُّرًا، ونسعدَ به تذكُّرًا؛ ونحملَه على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدِّقَ أخباره ونجتهدَ على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتنيَ ثمارَ علومه النّافعة الموصِلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحينَ الحِكَم من بين رياضه وأزهاره.
فهو كتابُه الدَّالُّ لمن أراد معرفته، وطريقُه المُوصِلةُ لسالكها إليه، ونورُه المبينُ الذي أشرقت له الظُّلمات، ورحمتُه المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات، والسَّببُ الواصلُ بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدُّخول، فلا يُغلَق إذا غلِّقت الأبواب.
وهو الصِّراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذِّكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنُّزُل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء. لا تفنى عجائبه، ولا تُقلِع سحائبه، ولا تنقضي آياته، ولا تختلف دلالته (2). كلّما ازدادت