
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (13)]
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي - علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات :956
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
من حين استقرت قدمه في الدنيا فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هو عمره الذي كتب له. والناس في سفرهم هذا إما مسافرون إلى دار الشقاء وإما إلى دار السلام. والسائرون إلى دار السلام ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار ومقربون. ثم عقد فصلًا في مسألة أن أصحاب اليمين هل هم الأصناف الثلاثة (المقتصدون والأبرار والمقربون) أو يدخل فيهم الظالمون لأنفسهم أيضًا. وفصّل القول فيها على طريقته من ذكر خلاف العلماء وأدلتهم وردودهم في نحو 32 صفحة، ثم رجع فقال: "والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها، فلنرجع إليه فنقول. . . " (441). ثم وصف حال الأصناف المذكورة، وأفضلها وأعلاها: السابقون المقربون. وقد تواضع ابن القيم فاعتذر واستغفر قبل وصف حالهم قائلًا: "وأما السابقون المقربون، فنستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها. وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة" (446). وبعد ذكر هذه الفوائد شرع في وصف حالهم من الجهتين: جهة الإرادة والعمل، وجهة العلم والمعرفة. فلما وصف حالهم مع الأقدار التي تصيبهم بغير اختيارهم بأنهم يقابلونها بمقتضاها من العبودية ذكر أنهم فيها على ثلاث مراتب: إحداها الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه. والمرتبة الثانية شكره عليها كشكره على النعم. وهذا فوق الرضا عنه بها، ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، والمرتبتان لأهل هذا الشأن.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه الذي نَصَبَ الكائناتِ على ربوبيّته ووحدانيّته حُجَجًا، وحَجَبَ العقولَ والأبصارَ أن تجد إلى تكييفه منهجًا، وأوجب الفوزَ بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغِ لها عوجًا، وجعل لمن لاذ به واتّقاه مِن كلِّ ضائقةٍ مخرجًا، وأعقبَ مِن ضيقِ الشدائدِ وضَنْكِ الأوابدِ لمن توكَّل عليه فرجًا، وجعل قلوبَ أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكّل والإنابة والتفويض والمحبّة والخوف والرَّجا.
فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتَب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتابَ الذي كَتَبه أنّ رحمتَه تغلِبُ غضبَه. أسبغ على عباده نِعَمه الفُرادى والتُّؤام. وسخر لهم البرّ والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياءَ والظلام. وأرسل إِليهم رُسُله، وأنزل عليهم كُتُبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125].
فسبحان من أنْزَلَ على عَبْدِه الكتابَ ولَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا (1). ورفع لمن ائتمَّ به، فَأحلَّ حلالَهُ، وحرَّمَ حرامَهُ، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، في مراقي السعادة درجًا. ووضع مَن (2) أعرض عنه، ولم