
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (13)]
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي - علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات :956
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
للذوق والوجدان والكشف والإلهام، لا للشرع والحجة والبرهان. فالشريعة شيء، وأصحابها أصحاب الظاهر. والطريقة شيء، وأصحابها أصحاب الباطن. هذا علم الصدور، وذاك علم السطور. هذا علم اللبّ وذاك علم القشور. بل هذا العلم حجاب دون ذلك العلم. وبهذا التفريق المزعوم قد انفسح مجال الانحراف والضلال في علم السلوك الذي هو أهمّ العلوم، فإن سعادة الإنسان في الدارين منوطة به، وانفتح الباب لكل دخيل غريب، فتشعبت الطرق، وكثرت المزالق، ولا نهاية للترّهات بعد العدول عن قصد السبيل وسواء الصراط. فالهجرة الثانية -وهي الهجرة إلى ما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكتاب والسنة واتباعُه في كل منازل السلوك- هي التي توصل العبد إلى اللَّه، وتصونه عن الجور والانحراف، وتضمن له السعادة في الدنيا والآخرة. يقول المؤلف رحمه اللَّه في مقدمة هذا الكتاب: "ولما كانت السعادة دائرة نفيًا وإثباتًا مع ما جاء به كان جديرًا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفًا على معرفته، وإرادته مقصورة على محابّه. وهذه أعلى همة شمّر إليها السابقون، وتنافس فيها المتنافسون. فلا جرم ضمنًا هذا الكتاب قواعد من سلوك طريق الهجرة المحمدية". فهذا هو مقصود الكتاب، ولكن كيف تناوله المؤلف، وما المباحث التي اشتمل عليها الكتاب؟ هذا سنبينه في الصفحات الآتية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه الذي نَصَبَ الكائناتِ على ربوبيّته ووحدانيّته حُجَجًا، وحَجَبَ العقولَ والأبصارَ أن تجد إلى تكييفه منهجًا، وأوجب الفوزَ بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغِ لها عوجًا، وجعل لمن لاذ به واتّقاه مِن كلِّ ضائقةٍ مخرجًا، وأعقبَ مِن ضيقِ الشدائدِ وضَنْكِ الأوابدِ لمن توكَّل عليه فرجًا، وجعل قلوبَ أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكّل والإنابة والتفويض والمحبّة والخوف والرَّجا.
فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتَب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتابَ الذي كَتَبه أنّ رحمتَه تغلِبُ غضبَه. أسبغ على عباده نِعَمه الفُرادى والتُّؤام. وسخر لهم البرّ والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياءَ والظلام. وأرسل إِليهم رُسُله، وأنزل عليهم كُتُبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125].
فسبحان من أنْزَلَ على عَبْدِه الكتابَ ولَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا (1). ورفع لمن ائتمَّ به، فَأحلَّ حلالَهُ، وحرَّمَ حرامَهُ، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، في مراقي السعادة درجًا. ووضع مَن (2) أعرض عنه، ولم