[آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)]
تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - أحمد حاج عثمان
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 468
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وكيف نشأ هذا عن الرحمة الواسعة الغالبة، وعن الحكمة البالغة، وهلّا كان الأمر بالضدّ من ذلك؟!
قيل: هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة، وأنّ الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وسبقت الغضب وغلبته، وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية.
ثم نقول: المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني، كما في «المسند» و «الترمذي» (1) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله خَلَق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فكان منهم الخبيث والطيب، والسَّهْل والحَزْن، وغير ذلك»، فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم.
ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحبّ والبغض ولوازمها، وابتلاه بعدوّه الذي لا يألوه خبالًا، ولا يغفل عنه، ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا، وبالهوى الذي أُمِر بمخالفته، هذا على ضعفه وحاجته، وزَيّن له حُبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المُقَنْطرة من الذهب والفضة والخيل المُسَوَّمة والأنعام والحرث، وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدَة إلى دار أخرى، غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها.
وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد، وأنْ يذهب الناس كلهم مع مَيْل الطبع، وداعي الغضب والشهوة، فلم يَحُل بينهم