
[آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)]
تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - أحمد حاج عثمان
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 468
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
له، واقتضت حكمته أنه لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب، فما أخرجه منها إلا ليُدخله إليها أتم دخول.
فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت، وكم بين دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في جوار المُطْعِم بن عَدِيّ ودخوله إليها يوم الفتح، وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خُلِقوا فيها، وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه، وأغناه بعد فقره، وهداه بعد ضلاله، وجَمَع قلبه عليه بعد شتاته، وفرحة من لم يذق تلك المرارات.
وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهْوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهْوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهْوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببًا ما مثله سببُ (1)
يوضحه الوجه الثاني والعشرون: أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان إتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها، من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة، وطلب محمدة مَن ينفعهم حمده، وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالًا وأرفع قدرًا، وكذلك يستحسنون إتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعزّ والشرف، ويذمون القاعد عن ذلك، وينسبونه إلى دناءة الهمة، وخِسّة النفس، وضِعَة القَدْر، كما قيل: