{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله:
{إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]
، وقد أحيط بهم. ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكرمَ من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذّي أبيه أعظمُ من أذى إخوته؛ فإنما ذلك أمرٌ أمره الله تعالى به ليبلُغَ الكتاب أجله، ويَتِمّ البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلوّ المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدّرها وقضاها نهايتها. ولو فُرِضَ أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يُعاقب بمثل ما عُوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه، أو يسرقه كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع. نعم، لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتجّ شُبهةٌ، مع أنه لا شبهة له أيضًا على هذا التقدير؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاءٌ من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيًا خاصًّا، كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه (1)، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه؛ لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حالُه في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه.