[آثار الإمام ابن القيم الجوزية وما لحقها من أعمال (32)]
تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - أحمد حاج عثمان
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1441 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 468
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وبين ذلك خالقُهم وفاطرُهم، بل أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم، فلم تَقْوَ عقولُ الأكثرين على إيثار الآجل المنتظَر بعد زوال الدنيا على هذا الحاضر العاجل المشاهَد.
وقالوا: كيف يباع نقد حاضر ــ وهو قَبْض باليد ــ بنسيئة مؤخَّرة وُعِدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم؟
ولسان حال أكثرهم يقول:
خُذ ما تراه ودع شيئًا سمعتَ به (1)
فساعدَ التوفيقُ الإلهي مَنْ عَلِم أنه يصلح لمواقع فضله، فأمدّه بقوة إيمان وبصيرة، رأى في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها، وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، ورأى حقيقةَ الدنيا وسرعةَ انقضائها وقلّةَ وفائها وظلمَ شركائها، وأنها كما وصفها الله تعالى لعبٌ ولهو وزينة، وتفاخر بين أهلها، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنها كغيث أعجب الكفارَ نباتُه، ثم يهيج فتراه مصفرًّا، ثم يكون حطامًا.
فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها، لا نألف غيرها، وحَكَمت العاداتُ، وقَهَر سلطانُ الهوى، وساعده داعي النفوس، وتقاضاه موجِب الطباع، وغلب الحسُّ على العقل، وكانت الدولة له، والناس على دين الملك.
ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب كلها، ويقطع هذه العلائق،