زاد المعاد في هدي خير العباد - المجلد الثاني
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (30)]
تحقيق: محمد عزير شمس
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 550
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وأصل المعاصي كلِّها العجزُ، فإنَّ العبد يَعجِز عن أسباب الطَّاعات، وعن الأسباب الَّتي تَعوقُه (1) عن المعاصي وتَحول بينها وبينه، فيقع في المعاصي، فجمع هذا الحديث الشَّريف في استعاذته - صلى الله عليه وسلم - أصولَ الشرِّ وفروعَه، ومبادئَه وغاياتِه، ومواردَه ومصادرَه، وهو مشتملٌ على ثمانِ خصالٍ، كلُّ خصلتين منها قَرِينانِ (2)، فقال: «أعوذ بك من الهَمِّ والحَزَن»، وهما قرينانِ، وإنَّ المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين، فإنَّه إمَّا أن يكون سببه أمرًا ماضيًا فهو يُحدِث الحزنَ، وإمَّا أن يكون توقُّع أمرٍ مستقبلٍ فهو يُورِث الهَمَّ، وكلاهما من العجز، فإنَّ ما مضى لا يُدفَع بالحزن (3)؛ بل بالرِّضا والحمد والصَّبر والإيمان بالقدر، وقولِ العبد: قدَّر الله وما شاء فعل. وما يستقبل لا يُدفَع أيضًا بالهمِّ، بل إمَّا أن يكون له حيلةٌ في دفعه فلا يَعجِز عنه، وإمَّا أن لا يكون له حيلةٌ في دفعه، فلا يَجزَع منه، ويلبس له لباسَه، ويأخذ له عُدَّتَه، ويتأهَّب له أُهبتَه اللَّائقة به، ويَستجِنُّ بِجُنَّةٍ حَصينةٍ من التَّوحيد والتَّوكُّل، والانطراح بين يدي الربِّ تعالى، والاستسلام له، والرِّضا به ربًّا في كلِّ شيءٍ، ولا يرضى به ربًّا فيما يحبُّ دون ما يكره، فإذا كان هكذا لم يَرضَ به ربًّا (4) على الإطلاق، فلا يرضاه الرَّبُّ له عبدًا على الإطلاق.