أعلام الموقعين عن رب العالمين - المجلد الثاني
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (28)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 520
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
لعظمت المشقة، واشتدَّت البلية، فشرَع مسحَ جميعه، وأقامه مقامَ غسله تخفيفًا ورحمةً، كما أقام المسحَ على الخفين مقام غسل الرجلين.
ولعل قائلًا يقول: وما يجزئ (1) مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء امتثالًا لأمر الله وطاعةً له وتعبُّدًا يؤثِّر في نظافته وطهارته ما لا يؤثِّر غسلُه بالماء والسِّدر بدون هذه النية، والتحاكمُ في هذا إلى الذوق السليم والطبع المستقيم؛ كما أنَّ مَعْكَ الوجهِ بالتراب امتثالًا للأمر وطاعةً وعبوديةً تُكْسِبه وضاءةً ونظافةً وبهجةً تبدو على صفحاته للناظرين. ولما كانت الرجلان تمسُّ الأرض غالبًا، وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقيةُ الأعضاء= كانت أحقَّ بالغسل. ولم يوفَّق للفهم عن الله ورسوله مَن اجتزأ بمسحهما [293/ب] من غير حائل.
فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس. وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله، وبها يُعصَى الله سبحانه ويطاع. فاليد تبطش، والرِّجل تمشي، والعين تنظر، والأذن تسمع، واللسان يتكلم. فكان في غسل هذه الأعضاء امتثالًا لأمر الله، وإقامةً لعبوديته ما يقتضي إزالةَ ما لحقها من دَرَن المعصية ووسخها.
وقد أشار صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في «صحيحه» (2) عن عمرو بن عَبَسة قال: قلت: يا رسول الله حدِّثني عن الوضوء. قال: «ما