
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (13)]
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي - علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات :956
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وقد تطرّق الكلام في أثناء البابين والقواعد إلى مباحث عظيمة ومسائل مشكلة اقتضت أهميتها إشباع القول فيها، كمبحث القضاء والقدر الذي استغرق أكثر من مائتي صفحة. ولكن أهمّ أقسام الكتاب وأنفسها -وهو من صميم الموضوع فلا يعدّ استطرادًا- هو القسم الذي تكلم فيه المؤلف رحمه اللَّه على علل مقامات السلوك. وقد اختار لبيان غلط المشايخ في هذا الباب كتاب محاسن المجالس لأبي العباس ابن العريف الصنهاجي من أكابر صوفية الأندلس. فتناوله فصلًا فصلًا بالنقد والنقض، وبيّن ما له وما عليه، فتكلم على ما قاله في منزلة الإرادة مثلًا، من اثني عشر وجهًا، وعلى التوكل من خمسة عشر وجهًا، وعلى الخوف من ثلاثة عشر وجهًا، وهكذا. ومما يستغرب أن المستشرق الإسباني الذي نشر محاسن المجالس في باريس سنة 1933 م لم يكن على علم بنقد ابن القيم إياه في طريق الهجرتين، مع كونه مطبوعًا قبل المحاسن بأكثر من ثلاثين سنة. وقد صدرت أول طبعة من كتابنا عن المطبعة الميمنية سنة 1320 هـ = 1902 م، على حاشية كتاب آخر لابن القيم، وهو إغاثة اللهفان. ثم طبعته إدارة الطباعة المنيرية سنة 1358 هـ، وتلتها طبعة المكتبة السلفية سنة 1375 هـ. ولكن لم تتهيأ لهذه الطبعات نسخة موثقة عالية من الكتاب، فكثرت فيها الأسقاط والتصحيفات والتحريفات، إلا ما صحح منها باجتهاد المشرفين عليها، غير أن اجتهادهم قد أدّى في أحيان كثيرة إلى مزيد من الأخطاء. وعن هذه الطبعات الثلاث -وبخاصة طبعة المكتبة السلفية-
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه الذي نَصَبَ الكائناتِ على ربوبيّته ووحدانيّته حُجَجًا، وحَجَبَ العقولَ والأبصارَ أن تجد إلى تكييفه منهجًا، وأوجب الفوزَ بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغِ لها عوجًا، وجعل لمن لاذ به واتّقاه مِن كلِّ ضائقةٍ مخرجًا، وأعقبَ مِن ضيقِ الشدائدِ وضَنْكِ الأوابدِ لمن توكَّل عليه فرجًا، وجعل قلوبَ أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكّل والإنابة والتفويض والمحبّة والخوف والرَّجا.
فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتَب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتابَ الذي كَتَبه أنّ رحمتَه تغلِبُ غضبَه. أسبغ على عباده نِعَمه الفُرادى والتُّؤام. وسخر لهم البرّ والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياءَ والظلام. وأرسل إِليهم رُسُله، وأنزل عليهم كُتُبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125].
فسبحان من أنْزَلَ على عَبْدِه الكتابَ ولَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا (1). ورفع لمن ائتمَّ به، فَأحلَّ حلالَهُ، وحرَّمَ حرامَهُ، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، في مراقي السعادة درجًا. ووضع مَن (2) أعرض عنه، ولم