
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (13)]
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي - علي بن محمد العمران
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات :956
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مقصد الكتاب موضوع هذا الكتاب قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الشرعي الذي بينه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فالمؤمن يجب عليه أن يوحد اللَّه بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأن يكون قدوته في ذلك هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيتبع هديه وشرعه ومنهاجه. وهذان الأمران: إفراد اللَّه بالعبادة، وإفراد الرسول بالمتابعة، هما المقصودان بالهجرتين في عنوان الكتاب. فيقول المؤلف رحمه اللَّه في مقدمته: "فله -يعني للمؤمن- في كل وقت هجرتان: هجرة إلى اللَّه بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كل نفَس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه. وكل عمل سواه، فعيش النفس وحظّها لا زاد المعاد". وقد عني المؤلف في كتبه ببيان أهمية الهجرتين في حياة المسلمين عناية بالغة، فتكلم عليهما في مواطن عديدة؛ لأنهما مضمون الشهادتين ومقتضاهما، ولا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما. فقال في مدارج السالكين (2/ 520): "وللَّه على كل قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على [مدى] الأنفاس: هجرة إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية. وهجرة إلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تقيده به أعظم من تقيد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق. فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه الذي نَصَبَ الكائناتِ على ربوبيّته ووحدانيّته حُجَجًا، وحَجَبَ العقولَ والأبصارَ أن تجد إلى تكييفه منهجًا، وأوجب الفوزَ بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادةً لم يبغِ لها عوجًا، وجعل لمن لاذ به واتّقاه مِن كلِّ ضائقةٍ مخرجًا، وأعقبَ مِن ضيقِ الشدائدِ وضَنْكِ الأوابدِ لمن توكَّل عليه فرجًا، وجعل قلوبَ أوليائه متنقلةً في منازل عبوديته من الصبر والتوكّل والإنابة والتفويض والمحبّة والخوف والرَّجا.
فسبحان من أفاض على خلقه النعمة، وكتَب على نفسه الرحمة، وضمّن الكتابَ الذي كَتَبه أنّ رحمتَه تغلِبُ غضبَه. أسبغ على عباده نِعَمه الفُرادى والتُّؤام. وسخر لهم البرّ والبحر، والشمس والقمر، والليل والنهار، والعيون والأنهار، والضياءَ والظلام. وأرسل إِليهم رُسُله، وأنزل عليهم كُتُبه، يدعوهم إلى جواره في دار السلام. {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام/ 125].
فسبحان من أنْزَلَ على عَبْدِه الكتابَ ولَمْ يَجْعَلْ له عِوَجًا (1). ورفع لمن ائتمَّ به، فَأحلَّ حلالَهُ، وحرَّمَ حرامَهُ، وعمل بمحكمه، وآمن بمتشابهه، في مراقي السعادة درجًا. ووضع مَن (2) أعرض عنه، ولم