
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٣٢)]
تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - أحمد حاج عثمان
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، ١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
أهمية الكتاب
يستمد هذا الكتاب أهميته من جملة أمور، منها:
ما يتعلق بخطورة موضوعه: القضاء والقدر، وموضعه من أركان الدين، واتصال مباحثه بالحديث عن أفعال الرب جل شأنه، فضلًا عما أدخله عليه المتكلمون والمشّاؤون من دقائق علم المنطق والكلام، ومحارات العقول، مع شدة الحاجة إلى بيان الحق فيها، وتزييف الباطل، وهو ما عبّر عنه المؤلف في خطبة الكتاب: "ولما كانت معرفةُ الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعةً في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة؛ اجتهدتُ في جمع هذا الكتاب وتهذيبه، وتحريره وتقريبه، فجاء فَرْدًا في معناه، بديعًا في مَغْزاه".
فإذا أضيف إلى ذلك قلة مصنفات أهل السنة والجماعة المفردة الجائية على هذا الطراز، الجامع بين الرواية والدراية، الحاوي للمنقول والمعقول= علت رتبة "الشفاء"، وتجلّت منزلته بين أضرابه، كـ "القدر" لابن وهب (197 هـ)، وأبي داود (275 هـ)، والفريابي (310 هـ)، والبيهقي (458 هـ)، وغيرها؛ إذ عامتها من كتب الرواية (1).
وهو مع هذه الخصّيصة من أبسط ما دوّن في بابه، وأغزره مادة، وأعزه فائدة، وأكثره تنوّعًا في أساليب العرض والمعالجة والرد على الشبهات، بما لا يكاد يوجد إلا فيه. وقد قصد المؤلف الاستيعاب ما وسعه ذلك، كما
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، والمِنن الجِسَام، والأيادي العِظَام، ذي الجلال والإكرام، الملك القدّوس السلام، الذي قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام.
فقدَّر أرزاقهم وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم ــ وعرشه على الماء ــ قبل خلق الليالي والأيام.
فأبرم القضيَّة، وقدَّر البريَّة، وقال للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن في هذا العالم على تعاقب السِّنين والأعوام.
ثم خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على عرشه المجيد بذاته، منفردًا بتدبير خلقه بالسَّعادة والشقاوة، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والخَفض والرَّفع، والإيجاد والإفناء، والنقضِ والإبرام.
{(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن:29]، فلا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع، ولا تُغَلِّطُه المسائل، ولا يتبَرَّم بإلحاح الملحِّين على (1) الدوام. يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تَفنُّنِ الحاجات (2)، ويرى دبيبَ النملة السوداء، تحت الصَّخرة الصماء، في