
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٣٢)]
تحقيق: زاهر بن سالم بَلفقيه
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - أحمد حاج عثمان
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، ١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وفي الباب السادس عشر استقصى ما جاء في السنة النبوية من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد، فجمع أحاديث الباب وتكلم عليها وعلى معانيها، ثم عرض للكلام على التوبة والاستغفار، وفقر العباد إلى الجبّار. ومع أن المؤلف ناقش طرفًا من مذهب الأشاعرة في الكسب والجبر ضمن مباحث الباب الثالث عشر عَرَضًا؛ إلا أنه أعاد وأفرد هذه المباحث ومتعلقاتها في البابين: السابع عشر والثامن عشر بمزيد عناية وتفصيل، ذكر خلاله ما وقع بين الأشاعرة من خلاف واضطراب في مسائل القدر، ونقل فيه عن كبار محققيهم، ثم ناقش مفردات الباب كلمة كلمة: فَعَل وأفعلَ، والفعل والانفعال، وبيّن ضلال الطائفتيَن: القدرية والجبرية، وختم الباب باستطراد في مسألة طلاق السكران والغضبان. ثم ساق المصنف في البابين: التاسع عشر والعشرين مناظرة مفترضة في مهمات مسائل القدر بين جبريّ وسنّي في الباب الأول منهما، وفي الثاني بين بين قدري وسُنّي ناقش فيها أنواع التعطيل وآثاره، ومباحث التسلسل وأنواعه ولوازمه، وأعاد البحث مع القدرية والجبرية في مسائل المشيئة والإرادة والأسباب والحكمة والتعليل. وفي الباب الحادي والعشرين عرض للعلاقة بين القدر ووقوع الشر في الكون، وأجاب عما أشكل ودقّ من أسئلة الباب، بعد أن أصّل القواعد، وشيّد أركان مذهب أهل السنة والجماعة في الحكمة والتعليل. ولم يكتف ابن قيم الجوزية رحمه الله بما سلف في هذا المبحث ــ أعني الحكمة والتعليل ــ بل عقد بابين كاملين بعد ذلك من أجلهما، استوعب في أحدهما نصوص الوحيين في اثنين وعشرين نوعًا، كل نوع في فصل مستقل،
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، والمِنن الجِسَام، والأيادي العِظَام، ذي الجلال والإكرام، الملك القدّوس السلام، الذي قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام.
فقدَّر أرزاقهم وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم ــ وعرشه على الماء ــ قبل خلق الليالي والأيام.
فأبرم القضيَّة، وقدَّر البريَّة، وقال للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن في هذا العالم على تعاقب السِّنين والأعوام.
ثم خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على عرشه المجيد بذاته، منفردًا بتدبير خلقه بالسَّعادة والشقاوة، والعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، والخَفض والرَّفع، والإيجاد والإفناء، والنقضِ والإبرام.
{(28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي} [الرحمن:29]، فلا يشغله سَمْعٌ عن سَمْع، ولا تُغَلِّطُه المسائل، ولا يتبَرَّم بإلحاح الملحِّين على (1) الدوام. يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تَفنُّنِ الحاجات (2)، ويرى دبيبَ النملة السوداء، تحت الصَّخرة الصماء، في