سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]

[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]
. فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس، والبصائر: جمع بَصيرة، وهى فعيلة بمعنى مُفْعِلَة، أي: مُبصِرة لمن يبصر، ومنه قوله تعالى:
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]
، أي: مُبَيّنةً مُوجِبة للتّبصُّر. وفعل الإبصار يستعمل لازمًا ومتعديًا، يقال: أبصرته، بمعنى: رأيْتُه، وأبصرته، بمعنى: أرَيْتُه. فـ
{مُبْصِرَةً}
في الآية، بمعنى: مُرِيَة، لا بمعنى: رائية، والذين ظنُّوها بمعنى: رائية غلطوا في الآية، وتحيَّروا في معناها. فإنه يقال: بَصُرَ به، وأبصره، فيُعَدّى بالباء تارة والهمزة تارة، ثم يقال: أبصرتُه كذا، أي: أريته إياه، كما يقال: بَصَّرته به، وبَصُر هو به. فهنا بَصيرة، وتَبْصرة، ومُبصرة، فالبَصيرة: المبينة التي تُبْصر، والتبصرةُ: مصدرٌ مثلُ التذكرة، وسُمّي بها ما يُوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تَبصرةٌ، لكونها آلة التبصُّرِ ومُوجبه. فالقرآن بصيرةٌ وتَبصرة، وهُدًى وشفاءٌ ورحمةٌ، بمعنى عام وبمعنى خاصٍّ، ولهذا يَذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدًى للعالمين، وهُدًى للمتقين، وشفاءٌ للعالمين، وشفاءٌ للمؤمنين، وموعظةٌ للعالمين، وموعظةٌ للمتقين، فهو في نفسه هُدًى ورحمةٌ، وشِفَاءٌ وموعظةٌ. فمن اهتدَى به واتّعظ واشتفى كان بمنزلة مَن استعمل الدوّاء الذي يَحْصُل به الشفاء، فهو دواءٌ بالفعل. وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة.