{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
إذا تبين ذلك فليس في الحديث أنه أمره أن يبتاعَ من المشتري، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنَقْدِ البلد ولا غيره، ولا بثمن حالٍّ أو مؤجَّل؛ فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يَعُمّ هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع [112 ب] الإجزاء إذا أتى بها. وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة. وهذا غلط بيّن؛ فإن اللفظ لا تَعَرُّض فيه للقيود بنفي ولا إثبات، ولا الإتيان بها ولا تركُها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمورُ به لا يخلو عن واحد منها، ضرورة وقوعه جزئيًّا مُشَخِّصًا، فذلك من لوازم الواقع، لا أنه مقصود للأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم أو النهي عنها من دليل منفصل. وقد خرج بهذا الجوابُ عن قول من قال: لو كان الابتياعُ من المشتري حرامًا لنهى عنه، فإن مقصوده - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بيان الطريق التي يحصل بها اشتراءُ التمر الجيِّد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن، ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه، فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفي شرط مخصوص، كما لا يُحتجّ به على نفي سائر الشروط. وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]
على جواز أكل كُلّ ذي نابٍ من السباع ومِخْلبٍ من الطير، وعلى حِلّ ما اختُلِف فيه من الأشربة، ونحو ذلك؛ فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال؛ إذ لا تعرُّض للَّفظ لذلك، ولا أُريد به تحليل مأكول ومشروب، وإنما أُريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه.