مِنْ دُبُرٍ [104 أ] قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 ــ 28]

[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
مِنْ دُبُرٍ [104 أ] قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 ــ 28]
، وسمّى الله سبحانه ذلك آيةً، وهي أبلغُ من البينة، فقال:
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35]
، وحكى الله سبحانه ذلك مُقررًا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به. ومن هذا: حكمُ نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذي تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقَصّتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائْتُونِي بالسّكين أشقَّه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبي الله، هو ابنُها، فقضى به للصغرى (1)، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفسُ الكبرى بذلك؛ استرواحًا منها إلى راحة التأسّي والتسلّي بذهاب ابن الأخرى كما ذهب ابنها، ولم يَطِبْ قلب الصغرى بذلك، بل أدركتها شَفَقَةُ الأم ورحمتها، فناشدَتْه أن لا يفعل؛ استرواحًا إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيًّا، وإن اتصل إلى الأخرى. وتأمّلْ حكم سليمان به للصغرى وقد أقرّت به للكُبرى تَجِدْ تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أماراتُ كذبه وبطلانه لم يُلتفَتْ إليه، ولم يحكم به على المقرّ، وكان وجودُه كعدمه. وهذا هو الحق الذي لا يجوز الحكم بغيره. وكذلك إذا غلط المقرّ، أو أخطأ، أو نسي، أو أقرّ بما لا يعرف مضمونه، لم يُؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقرّ مكرهًا. والله تعالى رَفع المؤاخذة بلَغْوِ اليمين؛ لكون الحالف لم يقصد موجَبها، وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئُ والناسي