{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
أو هو نَهْيٌ لصاحب الحق أن يُضارّ الكاتب والشهيد، بأن يَشْغَلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يُكلّفهما من ذلك ما يَشُقّ عليهما. ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله. فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود. ثم ذكر ما يحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السّفَر في الغالب، فقال:
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283].
فدل ذلك دلالةً بَيّنة أن الرهن قائمةٌ مقام الكتاب والشهود، شاهدة مُخبرة بالحق، كما يُخبر به الكتاب والشهود. وهذا والله أعلم سرُّ تقييد الرّهن بالسّفَر؛ لأنه حالٌ يتعذر فيها الكتاب الذي يَنْطِقُ بالحق غالبًا، فقام الرهنُ مقامه، ونابَ منابَهُ، وأكَّد ذلك بكونه مقبوضًا للمرتهن، حتى لا يتمكن الراهنُ من جحده. فلا أحسنَ من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذي لو أخذَ به الناس لم يَضِعُ في الأكثر حقُّ أحد، ولم يتمكنِ المُبطِلُ من الجحود والنسيان. فهذا حكمه سبحانه المتضمنُ لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم. والمقصود: أنه لو لم يُقْبَل قول المرتهن على الراهن في قَدْر الدَّين لم يكن وثيقةً ولا حافظًا لدينه، ولا بدلًا من الكتاب والشهود؛ فإن الراهن يتمكنُ من أخذه منه، ويقول: إنما رَهَنْته منه على ثَمن درهم ونحوه، ومَن يجعلُ القولَ قولَ الراهن فإنه يُصدّقه على ذلك، ويَقْبَل قوله في رَهْن الرُّبع، والصيغة على هذا القدر.