{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]

[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
وجه، كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك. وشواهد هذه القاعدة كثير ة جدًّا في الكتاب والسنة: فمنها: قوله تعالى في آية الرجعة:
{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]
، وذلك نصّ في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضّرار؛ فإذا قصد الضرار لم يُمَلّكْه الله الرجعة. ومنها: قوله تعالى في آية الخلع:
{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]
، وهذا دليل على أن الخُلعَ المأذون فيه إنما هو إذا خافَ الزوجان أن لا يُقيما حدود الله، وأن النكاح الثاني إنما يُباح إذا ظنّا أن يُقيما حدود الله؛ فإنه شرط في الخلع خوف عدم إقامة حدوده، وشرط في العَوْد ظنَّ إقامة حدوده. ومنها: قوله تعالى في آية الفرائض:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]
؛ فإنه سبحانه وتعالى إنما قدّم على الميراث وَصِية مَنْ لم يُضارَّ الورثة بها، فإذا كانت الوصية وصية ضرار؛ كانت حرامًا، وكان للوارث إبطالها، وحرم على الموصَى له أخذ ذلك بدون رِضَا الورثة [83 ب]، وأكد سبحانه ذلك بقوله:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229].
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها؛ لأن الأُولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف من الزوجين، والإخوة، والعادة أن الميت قد يُضارّ زوجه وإخوته، ولا يكاد يضارّ والديه وولده.