{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86، 87]

[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (25)]
حققه: محمد عزير شمس
راجعه: سليمان بن عبد الله العمير - محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثالثة، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الأجزاء: 2 (في ترقيم واحد متسلسل)
عدد الصفحات: 1151
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا الكتاب الذي نقدِّمه إلى القراء من أعظم مؤلفات الإمام ابن القيم وأجلِّها، وهو كتاب نادر في بابه، استقصى فيه المؤلف مصايد الشيطان ومكايده، ومهَّد لها بأبواب في أمراض القلوب وعلاجها. وقد كان المؤلف من أطباء القلوب البارعين، تناول هذا الموضوع في عددٍ من كتبه بأسلوبه الخاص، يعتمد فيها على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، ويمزجها بشيء من الشعر في المواعظ والآداب، ويُرشد الناس إلى إصلاح عقيدتهم وسلوكهم وتزكية نفوسهم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. وقد قمت بتحقيق الكتاب بالاعتماد على مخطوطاته القديمة التي تيسَّر الحصول عليها، وأقْدَمها تلك النسخة التي كُتبت في حياة المؤلف سنة 738، وحاولت أن أستخلص نصًّا سليمًا في ضوئها كما تركه المؤلف، وصححت كثيرًا من الأخطاء والتحريفات الموجودة في الطبعات المتداولة التي صدرت بالاعتماد على طبعة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، وإن ادَّعى أصحابها أنهم اعتمدوا على بعض النسخ الخطية. وفيما يلي دراسة عن الكتاب تحتوي على تحقيق عنوانه ونسبته إلى المؤلف، وتاريخ تأليفه، وموضوعاته ومباحثه، ومنهج المؤلف فيه، وبيان أهميته، وموارده، وأثره في الكتب اللاحقة، ووصف مخطوطاته، وطبعاته، ومنهجي في هذه الطبعة، وبالله التوفيق.
قالوا: إن آلهتهم خلقت السماوات والأرض، وإنها تحيي وتميت، [19 أ] وإنما سوَّوها (1) به في محبتهم لها، وتعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب (2) إلى الإسلام. ومن العجب أنهم يَنْسُبون أهل التوحيد إلى التنقُّص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنهم لا يشفعون لعابديهم أبدًا، بل قد حرَّم الله شفاعتَهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع. فالشرك والتعطيل مبنيَّان على سوء الظن بالله، ولهذا قال إمام الحنفاء عليه السلام لخصمائه من المشركين:
{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86، 87]
، وإن كان المعنى: ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به، وقد عبدتم معه غيره، وجعلتم له نِدًّا؟ فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟ فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يُدبِّر أمرَ العالم معه من وزير أو ظهير أو عون، وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكلُّ ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أنه سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك، وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يُعْلِمَهُ الواسطة، أو لا