أعلام الموقعين عن رب العالمين - المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (28)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 508
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
وكتب في هذا الموضوع، وخاصة في العصر الحديث الذي كثرت فيه المؤلفات والدراسات في هذا الباب.
وهناك أمر آخر يتميز به الكتاب، وهو أن المؤلف بحث فيه كثيرًا من المسائل الفقهية الشائكة من أبواب مختلفة، وخاصة في المعاملات، تدل على نظر ثاقب وفكر صائب اجتهد فيها واعتمد على روح الشريعة الإسلامية وعلى حكمتها العادلة، فقال في بعض المسائل أقوالًا لم يقل بها إلّا هو وشيخه، وتوسّع في مسائل أخرى توسُّعًا يدلُّ على مرونة الشريعة وعلى مناسبتها للتطور والمدنية، فوصل بالنتيجة إلى تحليلات ونظريات شبيهة بالنظريات القانونية العصرية. ولا مجال هنا لإيضاح نظرياته وآرائه الفقهية، ونواحي التجديد فيها، والنهج العلمي الذي اتبعه، فهذا يحتاج إلى دراسة مستقلة. ومن أهم هذه المسائل (1): اعتماد القصد في التصرفات، وحرية التعاقد، ومنع الحيل في الأحكام، وإحياء أعمال الفضولي المحسن، والمحافظة على حقوق الغرماء، والتوسع في أصول البينات، وغيرها من المبادئ التي اعتبر المقاصد فيها أساسًا للحكم في تصرفات الناس ومعاملاتهم.
ومن أهم مباحث الكتاب مبحث التقليد، وهو مبحث قائم برأسه، ولعله كان كتابًا مفردًا كما أشار إليه في بعض مؤلفاته، ثم أدرجه في هذا الكتاب. وقد سبق إلى الكلام في هذا الموضوع ابن عبد البر في «جامع بيان العلم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ وأعِنْ (1) الحمد لله الذي خلق خَلْقَه أطوارًا، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتمَّ بهم على من اتبع سبيلهم نعمته (2) السابغة، وأقام بهم على من خالف منهاجهم (3) حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجّة، وأوضح المحجّة، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فعمَّهم بالدعوة على ألسنة رسله حجةً منه وعدلًا، وخصَّ بالهداية من شاء منهم نعمةً منه (4) وفضلًا.
فقبِل نعمةَ الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وردَّها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين العالمين. فهذا فضله وعطاؤه،