أعلام الموقعين عن رب العالمين - المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (28)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 508
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
موقف بين يدي الله. ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرُّفاتهم، تلقَّوها عن المشرقيين، وأدخلوها في مذهبه» (4/ 221). كما برَّأ الأئمة من الدعوة إلى تقليدهم، فقال: «وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة، لم يقل بها أحدٌ من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبةً وأجلُّ قدرًا وأعلم بالله ورسوله من أن يُلزِموا الناس بذلك» (5/ 182).
وردَّ على المقلِّدة الذين جعلوا أقوال أئمتهم عيارًا على الكتاب والسنة، وعلى الذين يتلاعبون بأحكام الشريعة من أصحاب الحيل، فيُحلّون الحرام ويحرِّمون الحلال. وقد قال في موضع: «وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلد المتعصب المقرّ على نفسه بما شهد عليه به جميع أهل العلم أنه ليس من جملتهم، فذاك وما اختار لنفسه» (4/ 311). والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما أسلوبه في الكتاب فهو أسلوب علمي هادئ لا زخرفة فيه ولا تعقيد، تميَّز بوضوح العبارة وعذوبة الألفاظ، وقد شهد له بذلك الشوكاني حيث قال في «البدر الطالع» (1/ 144): «وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وله من حسن التصرف في الكلام مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه وتميل إليه الأذهان وتحبّه القلوب».
وفي أثناء الكتاب روائع من أسلوبه البياني المؤثّر الذي يصوِّر به واقع مجتمعه، يقول في موضع: «وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحلّلون مما هو رمدٌ بل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ وأعِنْ (1) الحمد لله الذي خلق خَلْقَه أطوارًا، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتمَّ بهم على من اتبع سبيلهم نعمته (2) السابغة، وأقام بهم على من خالف منهاجهم (3) حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجّة، وأوضح المحجّة، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فعمَّهم بالدعوة على ألسنة رسله حجةً منه وعدلًا، وخصَّ بالهداية من شاء منهم نعمةً منه (4) وفضلًا.
فقبِل نعمةَ الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وردَّها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين العالمين. فهذا فضله وعطاؤه،