أعلام الموقعين عن رب العالمين - المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (28)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 508
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
عليها، ففي مبحث العبرة بالمقاصد والنيات مهَّد له ببيان أن الله تعالى رتَّب الأحكام على الإرادات والمقاصد بواسطة الألفاظ الدالة عليها، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ لم يقصد المتكلم معانيها، بل تجاوز للأمة عن ذلك كله، وتجاوز لها عما تكلَّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة، لأن هذه الأمور لا تدخل تحت الاختيار، فلو رتَّب عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة (3/ 592 وما بعدها).
وعند مناقشة نفاة القياس ذكر قاعدتين، أولاهما: أن النصوص الشرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين (2/ 145)، والثانية: أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأطال في ذلك (2/ 233). وهناك أمثلة أخرى كثيرة مبثوثة في الكتاب مهَّد فيها بذكر قواعد للمسائل توطئةً لها، وأرشد المفتي أيضًا إلى ذلك فقال: «إذا كان الحكم مستغربًا جدًّا مما لم تألفه النفوس، وإنما ألِفَتْ خلافه، فينبغي للمفتي أن يوطّئ قبله ما يكون مؤذنًا به كالدليل عليه والمقدمة بين يديه» (5/ 14).
وقد أولى المؤلف اهتمامًا كبيرًا بمقاصد الشريعة وإبراز محاسنها واشتمالها على الحكمة والعدل والمصلحة، وأنها ألصق بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، مما يدلُّ على كمالها وبقائها. ومما قاله بهذا الصدد: «الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليس من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل» (3/ 429).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ وأعِنْ (1) الحمد لله الذي خلق خَلْقَه أطوارًا، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتمَّ بهم على من اتبع سبيلهم نعمته (2) السابغة، وأقام بهم على من خالف منهاجهم (3) حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجّة، وأوضح المحجّة، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فعمَّهم بالدعوة على ألسنة رسله حجةً منه وعدلًا، وخصَّ بالهداية من شاء منهم نعمةً منه (4) وفضلًا.
فقبِل نعمةَ الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وردَّها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين العالمين. فهذا فضله وعطاؤه،