أعلام الموقعين عن رب العالمين - المجلد الأول
[آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (28)]
تحقيق: محمد أجمل الإصلاحي
الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) - دار ابن حزم (بيروت)
الطبعة: الثانية، 1440 هـ - 2019 م (الأولى لدار ابن حزم)
عدد الصفحات: 508
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
العلَم، وهو ليس بجائز إلا عن نصٍّ من صاحبه». قلنا: وبصرف النظر عن تصحيحه الجازم من غير حجة، هل ذهب على الشيخ أنور شاه أن بعده في العنوان «عن رب العالمين»، فكيف يكون تأويل «الموفقين عن رب العالمين» عنده؟ نعم، لوقال: إن الصواب « ... الموفقين عند رب العالمين»، كما ذكر البغدادي في «هدية العارفين» (2/ 158)، لكان له وجه من التأويل، مع بُعده عن الصواب أكثر من الأول لتصحيف الكلمتين.
ولم ينته شقاء هذا العنوان بعدُ، إذ قرأ المستشرق الألماني غوستاف فلوجل ــ وهوالذي أخرج الطبعة الأولى من «كشف الظنون» مع ترجمته اللاتينية ــ لفظ «الموقعين» بفتح القاف، وفسره بمعنى المنكوبين الذين ابتلاهم الله بالمصائب! وهكذا أصيب ثلاثة أخماس هذا العنوان بتصحيف أو تحريف أو سوء تأويل! ولو علم المؤلف - رحمه الله - أن كلمة «الأعلام» المشتركة ستجلب إلى عنوانه الجديد كلّ هذا التخليط لصرَف النظرَ عنه بالكلية، وأبقى على العنوان الأول الصريح الدلالة على ما ضمّن كتابه العظيم من صُوى وأعلام يهتدي بها الفقهاء والمفتون والقضاة. ألا، وهو: «معالم الموقعين عن ربِّ العالمين»، وبه سمِّي الكتاب في ثلاث نسخ من النسخ التي بين أيدينا.
وقد اخترنا عنوان «أعلام الموقعين» لأنه الذي أقرَّه المؤلف أخيرًا لخفته على اللسان، وهو مرادف للفظ «المعالم» الذي ذكره المؤلف في بعض كتبه، ولا فرقَ بينهما في المعنى. أما «إعلام الموقعين» بكسر أوله فبعيد كما سبق تفصيله.
* * * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ربِّ يسِّرْ وأعِنْ (1) الحمد لله الذي خلق خَلْقَه أطوارًا، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتمَّ بهم على من اتبع سبيلهم نعمته (2) السابغة، وأقام بهم على من خالف منهاجهم (3) حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العلل، وقطع المعاذير، وأقام الحجّة، وأوضح المحجّة، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، فعمَّهم بالدعوة على ألسنة رسله حجةً منه وعدلًا، وخصَّ بالهداية من شاء منهم نعمةً منه (4) وفضلًا.
فقبِل نعمةَ الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وردَّها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين العالمين. فهذا فضله وعطاؤه،